" إن قوة الدولة وهيبتها تقاس من قوة تطبيقها للقانون بعدالة ، وقوة المواطن وهيبته تقاس بمدى احترامه للقانون والنظام " ..
من المعروف لدى الباحثين في حقول علم الأجتماع والعلوم السياسية والقانونية وعلم الأقتصاد السياسي أن ما ينظم العلاقات المتبادلة والمتوازنة حول الحقوق والواجبات بين طرفين معينين تتداخل مصالحهما تداخلاً جدلياً ، لا يمكن لأي طرف من الطرفين أن يكون كما يريد ان يكون من دون وجود الطرف الآخر ، هو ما اتفق على تسميته "بالعقد الاجتماعي " الذي بموجبه تترتب واجبات والتزامات يستوجب الأيفاء بأدائها مقابل حقوق مستحقهة لكلا الطرفين بشكل متوازن ، سواءً كان هذا العقد بين الأفراد أو بين مجموعات بشرية أو بين مجتمعات أو بين الدول والأمم أو بين المواطن والدولة ، وهو موضوع مقالنا هذا حصراً لما له من اهمية كبيرة في حياة الأمم والشعوب والبلدان للوصول الى بناء مجتمعات العدل والمساواة . الدولة بكل مؤسساتها الدستورية والقانونية التي تتشكل بقرار من الشعب عبر صناديق الانتخابات في اقتراع سري ديمقراطي حُرْ لأنتخاب ممثليه في البرلمان كسلطة تشريعية ، تقوم مؤسسات الدولة الثلاثة بأقتراح وتشريع منظومة القوانين والتشريعات ومجموعة التعليمات والضوابط لتنظيم العلاقة بين الدولة والمواطن والتي بموجبها تترتب على كلا الطرفين مجموعة من الألتزامات من حيث أداء ما عليهما من الواجبات ليحقق لكل منهما ما يستحق من الحقوق . حيث أن العلاقة بين الواجبات والحقوق في ظل سلطة الدولة الديمقراطية العادلة تفرض أن يكون أداء الواجبات بإتقان وكفاءة واخلاص هي ما تُولّد الحقوق المستحقة لصالح المواطن ، أي أن الأولوية الأولى والأسبقية في هذه العلاقة بين المواطن والدولة هي لأداء المواطن لواجباته تجاه الدولة أولاً ومن ثم تأتي الحقوق المستحقة للمواطن ثانياً أي بمعنى لا حقوق كاملة من دون أداء وتنفيذ الواجبات كاملةً .
التطبيقات والمحاسبة
وفقاً لمبدأ " العقاب والثواب " في الحياة وبموجب القوانين والأنظمة والضوابط الأدارية والقانونية والمالية والأمنية التي وضعتها الدولة من خلال مؤسساتها الثلاثة وألزمت المواطنين بتنفيذها في كل جزئيات حياتهم الشخصية والعامة ، في علاقاتهم الشخصية ببعضهم ممن يشاركون العيش في الوطن من جهة وبمؤسسات الدولة من جهة أخرى ، تجعل المواطن أي كان موقعه الأجتماعي والرسمي معرضاً للمساءلة القانونية والمحاسبة القاسية الرادعة إذا ما أخفق في أداء ما عليه من الواجبات وقد تصل تلك المحاسبة بعقوباتها الى درجة سَجنه لسنوات وسنوات بحسب مستوى الأخفاق وقد تصل تلك المحاسبة الى مستوى يفقد بسببها المواطن حياته في بعض الحالات الخاصة التي يرتكب فيها جريمة جنائية كالقتل العمد مع سبق الأصرار بحق الأفراد أو سرقة المال العام أو ارتكابه جريمة الخيانة العظمى بحق الدولة والوطن . كل أشكال التقصير في أداء الواجبات الذي يترتب على المواطن يعطي للدولة بموجب العقد الاجتماعي الحق القانوني شرعاً في أن تحاسبه على تقصيره بموجب القانون المختص ، وهذا أمر مشروع لا اعتراض ولا غبارٌ عليه عملاً بمبدأ " من يُقصر في أداء واجباته والايفاء بما عليه من الألتزامات بموجب العقد الاجتماعي بينه وبين الدولة يستحق أن ينال جزائه العادل من العقاب الذي يفرضه عليه القانون تحقيقاً للعدالة والمساواة" . الدولة تجمع الضرائب والرسوم وأجور الماء والكهرباء والخدمات الصحية والبلدية وكل ما يتعلق بالأستحقاقات المالية لها في تمشية معاملات المواطن في دوائرها مقابل ما تقدمه من خدمات عامة له ، ومن لا يفي بتلك الأستحقاقات المالية للدولة مقابل تلك الخدمات تقوم الدولة بحجب تلك الخدمات عنه وملاحقته قانونياً في المحاكم المختصة ، ولكن أحياناً يحصل أن نجد مؤسسات الدولة المعنية تقصر عن عمد محاسبة من يسيء من المواطنين من خلال تجاوزهم على ممتلكاتها وعلى الحق العام ، مقابل رشوة مالية تدفع من قبل المتجاوز للمسؤول لغض النظر عن تجاوزه ، وهذا يمكن حسابه فساداً على مؤسسات الدولة يُوجّبْ معاقبة المسؤول المرتشي لردع الفساد والفاسدين .
من واجبات المواطن أي كان موقعه الرسمي ودرجته الوظيفية في أجهزة الدولة أو موقعه في المجتمع احترام القوانين والأنظمة المرعية في أي مكان يتواجد فيه في العمل ، في المدرسة ، في الجامعة ، في القوات المسلحة ، في الشارع ، في الأماكن العامة ، ما متعلقاً منها بحقوق المواطنين كأفراد أو ما متعلقاً منها بالحق العام والمحافظة على البيئة الوطنية من أي تلويث جراء نشاطاته العبثية وسلوكه غير المسؤول . هذه الواجبات مفروضة على المواطن بحكم مجرد انتمائه للوطن بالأضافة الى الواجبات والألتزامات المطلوبة منه كحق عليه مدفوع الأجر من قبل الدولة أو من قبل رب العمل بموجب العقد الاجتماعي . إن أداء كل هذه الواجبات تجعل المواطن في موقع يُمكّنه أن يطالب الطرف الآخر بالحقوق المستحقة له مقابل أدائه لواجباته .
أما واجبات الدولة التي تمثلها سلطاتها الثلاثة ، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ( الحكومة ) والسلطة القضائية فهي ، حماية الوطن من أية عدوان خارجي ومن كل ما يهدد سيادته وأمنه الوطني من المخاطر ، تأمين العيش الكريم لكل مواطنيها وذلك باستثمار الثروات الوطنية في المشاريع الأنتاجية لخلق فرص العمل لمواطنيها ، توفير الخدمات الاجتماعية والتربوية والصحية والبلدية من خلال توفير البنى التحتية لها مثل الماء والكهرباء ومجاري الصرف الصحي والمدارس والجامعات والمستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحية والأمنية وتأمين توفر كل احتياجات المواطن من مواد غذائية ودوائية وكمالية في الأسواق المحلية مع تأمين السيطرة على نوعية البضائع المنتجة محلياً أو المستوردة من الأسواق العالمية والسيطرة على أسعارها بالشكل الذي تتناسب مع مستويات مداخيل المواطنين ، وحماية أموال الشعب من عبث العابثين من سراق المال العام من خلال شبكات الفساد المالي والأداري في أجهزتها المختلفة ومحاسبتهم بموجب القانون ، وهناك الكثير من الجزئيات التي تدخل ضمن إطار واجبات الدولة بمؤسساتها ان تقدمها لمواطنيها من ضمنها محاسبة المواطن الذي يعبث بوسائل الخدمات العامة ومنتجعات الخدمات الترفيهية ومعاقبته بشدة . إذا قصرتْ الدولة في أداء واجباتها في تقديم الخدمات المتكاملة لمواطنيها كما يجب يكون من حق المواطن محاسبة الدولة بمحاسبة المسؤولين المقصرين القائمين على إدارة مؤسساتها ، وذلك بمطالبتهم من خلال تنظيم التظاهرات الشعبية ومن خلال وسائل الأعلام المختلفة بإقالة وإحالة المقصرين والفاسدين والمستغلين لأموال وممتلكات وامكانيات الدولة ومناصبهم المسؤولة لغرض الأثراء والأنتفاع الشخصي . وفي حالة عجز السلطات المسؤولة في مؤسسات الدولة من محاسبة المقصرين والفاشلين والفاسدين والعابثين بمقدرات الدولة وسراق المال العام على المواطنين إجبار الحكومة على الأستقالة وتعليق البرلمان والدعوة لأجراء انتخابات برلمانية جديدة بالطرق السلمية والقانونية بحسب الدستور ، هذا ما تفرضه مبادئ الديمقراطية وقواعد وسياقات النظام البرلماني الديمقراطي .
إن النجاح في تطبيق هذه العلاقة في عملية الربط بين أداء الواجبات ونيل الحقوق المستحقة المتبادلة بين المواطن والدولة كعلاقة جدلية بينهما أو كمعادلة بين طرفين يعتمد على مستوى نضج الوعي الوطني والثقافي والشعور بالمسؤولية تجاه بعضهما البعض . فإن كان مستوى النضج للوعي الوطني والثقافي والشعور بالمسؤولية عالياً لديهما عندها سوف يكون مستوى أداء الواجبات للطرفين عالياً والتجاوب يكون سريعاً وايجابياً . أما إذا كان الأمر معكوساً فعندئذٍ ليس أمام أي طرف منهما لأجبار الطرف الآخر للأيفاء بالتزاماته وتنفيذها من خيار غير اللجوء الى استعمال وسائل القوة القاهرة . لقد قال الفيلسوف الألماني الكبير فريدريك هيجل قبل قرون عديدة " القوة هي القانون " لأن أي قانون يبقى من دون جدوى وميتاً إذا لم يكون مدعوماً ومسنوداً بقوة تفرضة على واقع الحياة ، وتلك القوة تمثل أولاً ارتفاع مستوى نضج الوعي الثقافي والوطني والشعور بالمسؤولية لدى الطرفين من العقد الاجتماعي كما ذكرنا ذلك في الحالة الأولى ، وثانياً تكون تلك القوة هي القوة القاهرة المسلحة تستخدمها سلطة الدولة لأجبار المواطن في حالة تقصيره في تنفيذ ما عليه من الواجبات والألتزامات ، وفي حالة تقصير الدولة في تنفيذ ما عليها من واجبات والتزامات فعندئذ ليس امام المواطنين ( الشعب ) غير إستعمال العصيان المدني والثورة الشعبية كقوة قاهرة على سلطة الدولة الفاشلة والفاسدة لتغيير نظامها السياسي وتبديله بأخر قادر على الإيفاء بالتزاماته تجاه المواطن بموجب العقد الاجتماعي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق