المتابعون

05/09/2019

عبدالملك بن مروان وعبدالله ابن الزبير

عبدالملك بن مروان وعبدالله بن الزبير..أخطر شخصيتين في تاريخ الإسلام مع علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، بل في تقديري أن عبدالملك وابن الزبير تفوقا بتأثيرهما (الجذري) ليس فقط في صراعات السياسة..بل في الصراع الديني الذي حدا بأحدهم أن يبني مسجدا يحج له المسلمون بديلا عن الكعبة ، وهذا تصرف غريب على ثقافة اليوم التي تنظر للكعبة كقدس الأقداس والمحمية بالسلطان الإلهي، وأنه مهما اختلف المسلمون فللكعبة قدسية خاصة ومفهوم وحدوي يلجأ ويحتمي به الجميع، ولكن بعد استعراض هذه الدراسة ربما يتبين لنا شئ آخر..

سنبدأ بالنظرية التاريخية ويتبعها الشرح والاستدلال

"مات يزيد بن معاوية عام 64 هـ فحدث صراع بين خليفته مروان بن الحكم مع عبدالله بن الزبير..
استقل مروان بحكم الشام..واستقل بن الزبير بحكم الحجاز والعراق..
مات مروان بن الحكم وتولى إبنه عبدالملك البيت الأموي وقرر التخلص من الزبير واستعادة مكة
اشتكى الشوام لمنعهم من الحج
قرر عبدالملك بناء مسجد بديل يحجوا إليه وانتزع الفتاوى الخاصة التي أعطت لمسجده قدسية تساوي بينه وبين الكعبة
تسربت هذه الفتاوى على شكل روايات وأحاديث ليتوارثها المسلمون
هذا المسجد البديل هو المسجد الأقصى"..انتهى

ماذا تعني هذه النظرية؟

تعني أن المسجد الأقصى الذي ذكر في آية الإسراء.." سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"..[الإسراء : 1] تعني مكانا آخر غير الذي شاع بعد ذلك أنه المسجد البديل الذي بناه عبدالملك في فلسطين، وفي ذلك خدعة دينية وسياسية كبيرة تحاشى المسلمون ذكرها خصوصا بعد قيام إسرائيل، فالمسألة حساسة جدا ويمكن القول أن مجرد البحث في هذه القضية يعني.."نصرة إسرائيل"..رغم أن هذا شئ وهذا شئ، فإسرائيل في الأخير دولة احتلال حسب القانون الدولي..وعليه مشروعية المقاومة ثابتة بثبات واقع الاحتلال.

لكن الحديث هنا تاريخي بحت، عُمدتنا فيه الدليل والغرض منه ليس أقل من الحقيقة التي حُجبت قرونا وأدهرا تحت وطأة عبدالملك ونفوذ الأمويين..وآخر بلامعقولية أي قداسة لمبنى حتى الكعبة ، وأن العقل يقبل قداسة الإله فقط دون غيره، وأن الاعتقاد بقداسة المباني يجيز التوسع للاعتقاد بقداسة مبانٍ أخرى أو بِيع ومنازل ليست ذات قيمة إلا عند أصحابها..

تاريخيا المسجد الأقصى بناه عبدالملك بن مروان

يقول ابن كثير: "قال صاحب مرآة الزمان: وفيها ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين، وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة وكان يخطب في أيام منى وعرفة ومقام الناس بمكة وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بني مروان"..(البداية والنهاية: 8/ 308)

ويقول ابن تغري.."وسبب بناء عبد الملك أن عبد الله بن الزبير لما دعا لنفسه بمكة فكان يخطب في أيام منى وعرفة وينال من عبد الملك، ويذكر مثالب بني أمية ويذكر أن جده الحكم كان طريد رسول الله ولعينه، فمال أكثر أهل الشام إلى ابن الزبير فمنع عبد الملك الناس من الحج فضجوا، فبنى لهم القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليصرفهم بذلك عن الحج والعمرة فصاروا يطوفون حول الصخرة كما يطوفون حول الكعبة وينحرون يوم العيد ضحاياهم وصار أخوه عبد العزيز بن مروان صاحب مصر يعرف بالناس بمصر ويقف بهم يوم عرفة"..( النجوم الزاهرة: 1/ 188)

ويضيف ابن تغري.." سنة اثنتين وسبعين: فيها بنى عبد الملك بن مروان قبة الصخرة بالقدس والجامع الأقصى، وقد ذكرناه في الماضية، والأصح أنه في هذه السنة"..(نفس المصدر)

ويقول اليعقوبي.." ومنع أهل الشام من الحج إلى مكة، وبنى قبة الصخرة في بيت المقدس، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها، بدلاً من الكعبة، وأقام الناس على ذلك أيام بني أمية".. ( تاريخ اليعقوبي 2-261 )

ويقول الدميري.." لما ولي عبد الله بن الزبير الخلافة بمكة، ولى أخاه مصعب بن الزبير المدينة، وأخرج منها مروان بن الحكم وابنه، فصار إلى الشام ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين، فلما ولي عبد الملك بن مروان منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبير، لأنه كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجوا، فضج الناس لما منعوا من الحج، فبنى عبد الملك قبة الصخرة فكان الناس يقفون عندها يوم عرفة ".. ( حياة الحيوان الكبرى صـ412 )

وأخيرا يقول ابن تيمية.." لما تولى عبد الملك الشام ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة وكساها في الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير"..( اقتضاء الصراط/ 435، ومجموع الفتاوى: 27/ 12) انتهى

واضح من الروايات اتفاقها على أن الأقصى لم يكون موجودا قبل زمان عبدالملك، وبعضهم حدد السنة التي بُني فيها مع قبة الصخرة وهي 72 هـ، وروايات أخرى تقول أن تتمة البناء كانت في عهد الوليد بن عبدالملك، لذلك عزا البعض بناء المسجد للوليد بوصفه من أتم بناؤه، وهذا هو موضع الشاهد أنه حتى لو كان الوليد هو من بنى المسجد فالإشكال قائم، أين كان الأقصى في فلسطين وقت نزول آية الإسراء؟!

روايات أخرى تقول أن الأقصى كان مُصلى/ مكان للسجود صلى فيه الصحابي عمر بن الخطاب بعد فتح القدس من أيدي الرومان..أي لم يكن بناء المسجد قائم حينذاك، وعلى فرض صحة رواية عمر فتعني أن الإشكال قائم ،حتى لو كان الأقصى مجرد مصلى في زمان عمر فهو يعني عدم وجوده في زمان النبي، وهذا يتعارض مع الروايات الأخرى التي قالت بأن الأنبياء داوود وسليمان من أتما بناؤه، وسنعرف بعد قليل مصدر هذا الكلام..

ملحوظة: يوجد خلط بين لفظي (القدس وبيت المقدس) المؤرخون القدماء لم يعرفوا مدينة إسمها القدس، بل كانوا يطلقون عليها (بيت المقدس) كالواقدي في فتوح الشام ت 207 هـ، ويعقوب الفسوي في في المعارف والتاريخ ت 277 هـ، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه المتوفي عام 281هـ، من هنا جاء الخلط بين المسجد الأقصى وبيت المقدس/ قبة الصخرة ،لفظ المسجد كان يعني به بناء الجامع نفسه، أما بيت المقدس فالمدينة

وأصل تسمية القدس ببيت المقدس عند رهبان اليهود الذين أسلموا ككعب الأحبار ووهب بن منبه، فالمدينة كانت ولا زالت مقدسة في التوراه..وزادت قداستها ببناء الأقصى وقبة الصخرة في العهد الأموي لاستخدامهم في الحج إبان تمرد بن الزبير واستقلاله بالحجاز ومنع الشوام من الحج ودخول مكة..من هنا بدأ النزاع الإسلامي اليهودي عليها..(راجع كتاب تاريخ ملوك حمير للمعافري المتوفي عام 212 هـ ستلاحظ أن كل رواياته عن بيت المقدس يهودية وتنقل قصص التوراه بالحرف)..

المعافري نقل قصص التوراه وأعطاها الصبغة الإسلامية، وهو أول من قال بتأسيس الأقصى على يد النبي داوود وإبنه سليمان، وكتابه في المجمل رواية عن وهب بن منبه، وقلده أبو جعفر البغدادي ت 245هـ في تاريخه المشهور (بالمحبر) ، كذلك فتوح مصر والمغرب لابن عبدالحكم ت 257هـ، وابن قتيبة الدينوري في المعارف ت 276هـ..حتى أن الدينوري خصص فصلا كاملا في كتابه لترجمة بيت المقدس كل رواياته عن وهب، والبلاذري في فتوح البلدان ت 279 هـ، وأبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال ت 282هـ، ثم جاء الطبري ليجمع كل ذلك في تاريخ الرسل والملوك ويقرر في بداية كتابه أنه جمع هذه الروايات دون أي مسئولية منه على صدقها، بما يعني أن الطبري كان متشكك في رواياته لكن نقلها للعلم في أكبر وأهم كتاب تاريخ في التراث الإسلامي على الإطلاق..

وملحوظة أخرى: أن الطبري هو أول من أطلق لفظ (القدس) على المدينة بقوله في سياق الحديث عن جالوت.." وكانا إذا جاءت النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن"..(تاريخ الطبري 1/470) وسائر لفظ القدس بعد ذلك عني به في الثقافة المسيحية .."دهن القدس"..أو.."روح القدس"..وهي ألفاظ تعني أنه ربما أطلق إسم القدس على المدينة تيمنا بهذه الثقافة فيما بعد، وكنتيجة لنقل تراث اليهود والتوراه دون اعتبار بحقائق التاريخ

لاحظ أن الحقبة التاريخية التي نتحدث فيها هي (القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي) وهي أشهر حقبة دون بها الحديث والتاريخ والتي عرفت (بعصر التدوين)

لاحظ أيضا أن منشأ قدسية المسجد الأقصى جاءت بثلاثة طرق:

الأول: الخلط بين الأقصى وبيت المقدس بنقل روايات اليهود عن بيت المقدس في سياق الحديث عن المسجد/ الجامع بينما قصد المؤرخون الأوائل المدينة نفسها ولم يعنوا مسجدا في هذا المكان.

الثاني: إقرار رواية اليهود حول بيت المقدس أنه من بناء داوود وسليمان في سياق الحديث عن المسجد، وبالتالي استنتج الورثة والأخلاف أن المسجد الأقصى من بناية داوود، وهو استنتاج قاصر قائم على العاطفة دون مراعاة السياق التاريخي الذي أكده المؤرخون القدماء الذين عنوا المدينة في تراث اليهود وحكايا التوراه فقط دون الحديث عن أية مساجد، واليهود لن ينقلوا قداسة مسجد في مكان هيكلهم لتعارض المصلحة بالعموم.

ليست هناك تعليقات: