المتابعون

23/09/2019

قصة اغتيال الإمام يحي بلسان ابنته .. يتيمة الاحزان تقية بنت الإمام يحي

"قصة اغتيال الإمام يحيى بلسان ابنته"

يتيمة الأحزان تقية بنت الإمام يحيى

ما عرفته فيما بعد عن مؤامرة المجرمين:
كان الإمام رحمه الله في الدورة اليومية المعتادة لمواجهة المتظلمين من الرعية وبعد انتهائها اصطحب رئيس الوزراء عبد الله العمري وأربعة أحفاد وعسكري واحد مرافق وسائق سيارته بقصد تفقد مزرعته في جنوب صنعاء وفي الطريق ترجل ثلاثة من الأحفاد للتنزه وانتظار عودة الإمام وعند سواد حزيز, لاحظ السائق اعتراض كومة احجار في طريق السيارة فنزل العسكري لإزالتها لأنها تعيق السير وما هي لحظة حتى بادرت كمائن كانت قد أعدت وترصد السيارة ومن فيها بإطلاق زخات من الرصاص ومن كل الاتجاهات صوب الإمام ومرافقيه فأصيب الإمام بأكثر من مئة عيار ناري واستقر منها في جسده حوالي خمسين طلقة ووجد مضرجا بالدماء ومنكفيا على وجهه والحفيد الرابع مضطجعا ميتا في أحضان جده ورئيس الوزراء ميتا وقد تشوه وجهه من الطلقات التي أصابته وكذا العسكري والسائق. أما أخوتي الحسين والمحسن فقد تولى قتلهم الرئيس جمال جميل العراقي ، وذلك عند باب قصر دار السعادة ولأن في العمر بقية وباذن الله ورحمته فقد نجا أخي يحيى بأعجوبة. بعد أسبوع من الحادث الأثيم المروع طلبت إخلاء الحمام التركي الكائن بجانب بيت خالي إسماعيل غمضان وأبلغت الخادمة أن تحضر لنا ما يلزم ، وذهبت أنا وابنتي والمساعدة وحال وصولي إلى الحمام طلبت من الحمامية أن تستدعي بنات خالي وعلى أن يصلن برفقتها. ووصلت بنات خالي وأقمنا مأتما في الحمام بكينا حتى أرهقت . عيوننا وقرأنا آيات من القرآن الكريم ومن ثم خرجت إلى بيت خالي وكان خالي وقتها في المسجد وحال وصولنا رمى بين يدي عمامته وقال: هذا جاهي عليكم تبقوا عندنا. وكان جوابي: بشرط لا معزين ولا مؤاسين. فقبل الخال ونادى الحارس وألزمه بمنع كل واصل اياً كان وجهزت حجرة ابنتهم لنا وكانت أسرة خالي ترتدي كلها ثياب الحداد السوداء. وجاءني سائق زوجي يسأل عني من اجل عودتي إلى البيت فقلت لهم : أبلغوه أني في بيت خالي ولا أريد العودة في هذا الوقت. ووصل زوجي مرتبكا مضطربا يسألني: ما الذي يضايقك ويتوسل أن لا أزيد على نفسي ، وكفى تعذيبا لنفسي فإنه القضاء والقدر مصابنا كبير وما علينا إلا الصبر والصبر وحده. كان زوجي متلهفا لسماع أية كلمة مني فقلت له: اني هنا في بيت خالي لاقيت أهلا حزنهم لا يقل عن حزني وتعريضا بالمثل والاستفزاز الذي اسمعوني إياه في بيت ابن الوزير ، كان زوجي يتردد لزيارتنا يوميا وظني أنه كان يترصد أن كنت عرفت شيئا عن الأحداث التي تجري والقتلة فيخمده قبل أن يفشى أمره ، واطمأن بأني لا أعرف شيئا وما بقائي في دار خالي إلا ردة فعل لما سمعته من أقوال استفزتني. كنت اسمع من بيت خالي تراشقا بالرصاص بين جماعات متقاتلة وفي أغلب الأحيان يشتد وفي بعض الأحيان يهدأ وأدركت أن الناس غاضبون لفعلتهم النكراء. في أوائل الأسبوع الثالث لاستشهاد والدي ناداني خالي إسماعيل رحمه الله وانزوى بي في قرنة من البيت حيث لا يسمعه أحد وتلفت يمينا وشمالا الممرات خالية والخدم قد هجعوا واستوثق أننا وحدنا وبصوت منخفض اقترب مني وقال:
سأقول لك سرا مهما لا يمكن أن أقوله لأهلي وبناتي وعليك يا تقية حفظه لأن فيه حياة أو موت. تفتحت أذناي وحدقت عيناي وانتصبت قامتي وتمالكت أنفاسي وكبت أحزاني وقلت:
تفضلوا ولكم الأمان وحفظ السر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
قال: يذاع بين الناس أن المتآمرين على قتل مولانا هم بيت الوزير ، واستنادا إلى مجريات الأحداث فان سيدي عبد الله زوجكم هو من أول المتآمرين ، وهو الذي دبر عملية اغتيال الإمام. أحسست أن الأرض تميد بي وبدني يرتج وكأن زلزالاأمسكني ودوامة بحر خطفتني إلى أعماق الأعماق. أكاد أجن من هول ما سمعت:
زوجي أول المتآمرين على قتل والدي؟ وأعمامي آل الوزير وصل الحقد بهم إلى اجتثاث أسرتي وخيانة تراث الأئمة التاريخي. وبدأت أعيد ترتيب ما حدث معي في الأيام السبعة السابقة ، حينها أدركت سبب سرعة وجود زوجي لدى وصول خبر اغتيال والدي وأخواني والحفيد ، وعرفت فيما بعد أنه كان على سطح منزلنا ينتظر إشارة من المجرمين القتلة تنبىء بأن عملية الاغتيال قد تمت ، وقلت: الله ولي أمري وهو وحده يتولاني. كنت أظن أن الاجتماع في ديوان بيتنا إنما كان للتخطيط لرحلة سرية مكتومة فإذا به اجتماع تنفيذ مؤامرة قتل والدي في وضح النهار. ولم أفق من شرود ذهني وحساباتي إلا ويد خالي الطاهرة تمتد الي وتمسكني, ويقول:
سأطلعكم على سر آخر ، ولكن مالي لا استطيع الحركة؟ قدماي لا تقوى على الانتقال كأنها غرزت في الأرض وتسمرت في حجرة البيت. حرضني خالي إسماعيل يرحمه الله على السير فاتكأت على يده ومشى بي جرا إلى منزله الثاني وكان ملحقا به ديوان للرجال فتقدم نحو الباب وشقه مفتوحا خفيفا مواربا وقال:
أنظري فنظرت فإذا أكداس من الأسلحة بنادق وعيارات نارية وفي أعلى الديوان رأيت رجالا متحضرين فنادى خالي أحدهم وعرفه بي فتقدم الرجل نحو الباب وخاطبني قائلا:
قري عينا يا بنت أمير المؤمنين إن ساعة الحساب آتية لا ريب فيها ، وسيعرف الذين ظلموا أية جريمة ارتكبوها وأخرج منشورا وكان من ولي العهد أخي أحمد وقرأته . وأن الإمام أحمد في حجة والناس يتوافدون على ديوانه لمبايعته إماما خلفا للإمام الراحل وهو قادم بجيش جرار باذن الله إلى صنعاء ، وعدت إلى مستقري في بيت خالي حيث كانت في انتظاري ابنة خالي امة الرزاق ، وهي التي أبت أن تفارقني لحظة واحدة. كيف أصف هول ما سمعت عن زوجي؟ قلبي قد تباين صدعه وعيني لا ترشح إلا بالدم ، وأحشائي محترقة وأجفاني بمائها غارقة.. الدمع واكف والحزن عاكف. زوجي يقتل أعز انسان علي في هذه الدنيا ، يقتل والدي ، أنا الذبيح الحي الماشي أي حقد أعماه؟ يا لهفي على ما افتراه ، وتبا لما ادعاه من حب وود وتقدير. أكانت تعزيتهم تشفي ، وهل بكاؤه المر ونحيبه ما كانت إلا غطاء ، هل أتقن زوجي دور الندابة النواحة التي تستأجر بالدراهم في المآتم المصرية ، تمشي وراء الجنازة تندب وتنوح ، ولا صلة لها بالميت من قريب أو بعيد سوى ما سوف تقبضه من الدراهم بعد أن يوارى المرحوم الثرى ، هل أصبح زوجي مشخصاتي مصري؟ نياط قلبي تتقطع ، رزئت بوالدي وأخواني وابن أخي ، يا فجيعتي بزوج ماكر خبيث منافق يظهر غير ما يبطن تمكن الشر والحقد والحسد منه ، وما عاد يفكر إلا في القتل والأدهى والأمر أنه يكذب ويدلس في مشاعره ومظهره. إذا جاء الي كان كالحمل الوديع يبكي ويتأسف ويتمتم بكلمات كنت لاأدع أذناي تسمعها ، كانت ليلة عرف السهاد طريقه الي طوال الليل ، أنا مفتحة العيون فاغرة الفم والأشداق مبهورة أفرك يدي واضرب أخماسا في أسداس أقلب الأمور، ظلام في ظلام، ساعات الليل تمر علي ثقيلة بطيئة طويلة كأنها أشواك تغرز في قلبي الهموم حتى أغدو منهوكة الأعصاب خائرة القوى. لقد مزقتني الخطوب والمخاوف ، ولولا ذاك الشعاع الذي وصلني من فتحة ديوان خالي ولعل من مرجف يتصور أني بالغت في تحميل زوجي وزر ما وقع ، وما من دليل إلا ما نقله خالي وتظل أقوال خالي في مقامها من حيث الشك وليس اليقين ، ولكن رويدا فان القول الفصل والبرهان الأكيد الذي لا يأتيه ذرة شك ذاكرته بعد ورقات إن شاء الله ، حيث لا لبس ولا إبهام دليل متهدج. وأفقت على صوت أن سيدي عبد الله بانتظاركم ، وتساحبت أعضائي ، رجلاي بالكاد تنتقلان وتسيران بجسمي المرهق ، وذهبت إلى حيث ينتظرني وقعدت وخالي إسماعيل واقف معنا ، يتنقل بنظره تارة إلى وجهي وطورا في وجه المسمى زوجي. فقد كان خالي إسماعيل يخشى أن تبدر مني إشارة أو تلميحة أو كلمة فتكون هي نهايته ، فما نحن إلا أمام قاتل أشر. وأرسلت إلى خالي: لاتخف أيها الخال إني واياكم على العهد والأمان. أمرت ملامحي أن تعود إلى طبيعتها وكأني لا أعرف شيئا سوى ما كان قد نقله زوجي الي فقط سيطرت على نفسي سيطرة تامة ، وقيدت كل اعصابي بقيود ضاعت مفاتيحها ، فلا يمكن لأحذق المفترسين أن يستدل من ظاهري على ما اكتنزه باطني كأني أقول لخالي: اطمئن يا خال فاني للسر حافظة وحياتك علي لن أخيب أملك فأنت يا من أسديت كل هذا الجميل كنت الوالد الثاني وأنت أعدت الأمل إلي بقرب انتهاء الكرب وحصول الفرج فلا تقلق. أما المسمى زوجي فقد لاحظ شحوب وجهي وترخل عيوني فعاد يذكرني بمعزوفته القديمة.. تجملي بالصبر يا ابنة أعز الناس وبالغ في استحضار الأحاديث وقراءة بعض الابيات التي تدعو للصبر الجميل وفضائل الصبر. صحيح أن القلب كان ينزف دما والعين تقذف جمرا ملتهبا والاذن عافة عن سماع اكاذيبه والانف يشتم من كل خلية في جسمه رائحة الغدر والخيانة ولكن أنى له أن يلحظ شيئا من كل هذا فما أبديت إلا ارتياحا وقبولا لما يقوله والأهم أنه غادر ولم يصطد مني كلمة أو إشارة واحدة بأني أعرف أمورا جديدة وودع وانصرف. ثم عاد في اليوم التالي أو بعده بيوم ومارست عين الاحتياطات والتظاهرات فقابلته وخاطبني قائلا:
انه يستوجب علينا السفر إلى المملكة العربية السعودية ، أنا والقاضي محمد محمود الزبيري والفضيل الورتلاني الجزائري للاجتماع مع وزراء جامعة الدول العربية ولن أتأخر أكثر من ثمان وأربعين ساعة. كأنه يقول لي: ها أنا اسافر وانت تعلمين وقد عرفتك سبب سفري ومدته لذا فاني قد اوفيت والتزمت بما كتبت في الورقة المودعة عندك. ومضى دون أن يودع ابنته أو حتى يذكر اسمها. وحين ادار ظهره شعرت براحة عميقة وكأن كابوسا ثقيلا ثد زحزح عن صدري فما عدت أطيق رؤية وجهه ولا عاد لأذناي من قدرة على سماع أكاذيبه ودجله وريائه تمنيت لو أن الأرض انشقت وابتلعته ورمقته وهو يسرع الخطوات وقلت: أن الله يمهل ولا يهمل وان عذاب ربي لعظيم عليه اتكلت واليه انيب وحسبي الله ونعم الوكيل. ورجعت إلى بيت خالي وألملم بقايا أشلائي أتجمل بالصبر والصبر يحمد في المواطن كلها والصبر على والدي وأخواني وبن أخي أن أبكي وأن أجزع.. أكثر ما كان يضغط علي لكبح غيظي عندما أرى المسمى زوجي اضطراب خالي عندما يراه إذا ما جاء للزيارة أو تسقط الاخبار مني، الدقائق التي كان يمضيها عندنا أراها دهورا قاحلة ظله ثقيل بليد على خالي وعلي أكثر بلادة وثقلا وغادر إلى المملكة العربية السعودية وكان هذا آخر العهد به. أما ما حدث معه منذ وصوله إلى المملكة العربية السعودية وتنقله في البلاد فسأتركه للرسالة التي كتبها عبد الله بن علي الوزير إلى الشيخ عبد الله بن علي الحكيمي، وبادرت المجلات في نشرها والتعليق عليها وتفاخر بها كتاب آل الوزير والعديد من الكتب التي صدرت في اليمن بعد سنة 1962م. يجعلني أورد مقتطفات منها تتعلق بي وبحادث الجريمة المروع وللبيان فاني لم أر أصل الرسالة ولو رأيتها لعرفت أن كانت بخطه أم لا غير أن تبنيها من آل الوزير وخاصة الوالد أحمد بن محمد والولد إبراهيم. ويبدو أن عبد الله بن علي الوزير كتب رسالته وبعث بها إلى الشيخ الحكيمي المقيم ظلما إلى جانب المعارضة وكان مرض السل قد عاود عبد الله بن علي الوزير ويعالج في مستشفى مجاني بالهند كان مخصصا للغرباء.
يقول في رسالته: ثم تزوجت بابنة الإمام عن اشارة لي من والدي وهي أيضا صالحة ففيها شفقة ومودة ورحمة. وهذا بخلاف ما ذكره الولد أحمد بن محمد عبد الله الوزير في كتابه عن سيرة لعم علي بن عبد الله الوزير فيه ذكر أن الإمام يحيى عرض تزويج عبد الله بابنته الأميرة التقية ( فالعرض والرغبة كانت من والد عبد الله وليس من والدي يحيى). ويضيف عبد الله بن علي الوزير في رسالته: ولكن ما كانت تلك القربى وتلك الصلة لتزيدني إلا حقدا وغيظا ومقتا لأني كنت ألمس تلك الحقائق التي سمعتها من عمي.. فالزواج لا يقيم وزنا لصلة القربى حتى وان كانت لآل البيت، وهو ما اوصى به الرسول الامين صلى الله عليه وآله وسلم. وتحت عنوان المفاجأة يكتب عبد الله:

المفاجأة
في ذات ليلة من ليالي أواخر ذي القعدة سنة 1357 ÷ـ وأنا بصنعاء لم أشعر في الساعة الرابعة ليلا إلا بوصول ظروف مختوم من الإمام ولما فتحتها وقرأته فإذا بالإمام يقول في رسالته الي" صدر تلغراف والدك ستوجه للحج فتأهب غدا لملاقاته إلى الحديدة لا تتأخر لتفوتك الباخرة " ويمضي في التفاصيل أما أنا فاني في تلك الساعة المتأخرة من الليل حزمت بعض أمتعتي الضرورية وما معي من الفلوس وفي الصباح توجهت إلى الحديدة ولم يقف خفقان قلبي إلا بعد وطئت قدماي الباخرة التي ستنقلنا إلى جدة وهناك تنفست الصعداء. وعن اقامته السنوات التسع في مصر يذكر في رسالته " كان يقوم به من تحريض وانتقاض وثلب الدولة في اليمن ومن ثم احتضانه من قبل جماعة الأخوان المسملين في مصر وكان زعيمها آنذاك ومرشدهم العام حسن البنا وقد تولى بن الوزير في مصر كل من الفضيل الورتلاني الجزائري والحاج محمد سالم ومحمد صالح المسمري وعبد الوهاب عزام. ويؤكد عبد الله الوزير انه قابل الوزير المصري عبد الحميد صالح باشا وأبلغه نيته في العودة إلى اليمن حسب الخطة المرسومة فهو اذن يقر ويعترف أن هناك خطة رسمت لتنفيذها في اليمن ولم يصفح عبد الله عمن أعد الخطة وما هي طبيعتها ولكنه اكتفى بايراد دليل انه كان اداة تنفيذ للخطة المرسومة وعودته كانت بدواعي الخطة المرسومة. ويقول عبد الله بن علي الوزير: كان توجهي إلى صنعاء عن طريق عدن على باخرة انجليزية من حاملات الجنود في 24 فبراير اي سنة 1947م. فمن ذا الذي سهل له السفر على باخرة انجليزية حاملة الجنود وعادة ما يكتسب هذا النوع من البواخر سرية خاصة فهي ليست باخرة مسافرين بالاجرة وسافر إلى عدن المحمية البريطانية والتي كانت تسهل المتمردين على الدولة في اليمن وتقدم لهم الدعم المطلوب.
ويقول في فقرة أخرى:
وهناك بصنعاء قد سبقني إليها فضيلة السيد الفضيل مرسلا من لدن الحاج محمد سالم من مصر واسباب وصوله انه بعد خروج السيد حسين الكبسي رحمه الله من مصر أخبر الإمام انه يوجد في مصر شركة عظيمة للسيارات ومديرها الحاج محمد سالم رجل عظيم من أهل الامانة والديانة إذ كان مراد الإمام أن يكون لهذه الشركة فرع في اليمن أو تتألف شركة ترتبط بها فطلب الإمام خروج محمد سالم إلى صنعاء بنفسه فاعتذر فأرسل الفضيل. الخ.............ثم كان ارسال مطبعة من مصر إلى عدن ومعها الفني الذي سيعمل عليها لطبع المنشورات ضد دولة الإمام.

عبد الله بن علي الوزير يضيف:
نعم بعد وصولنا صنعاء بيومين، قررنا تأليف الشركة اليمنية الكبرى وكان اجتماع جميع التجار وغيرهم من الأعيان في دار السيد حسين الكبسي وانتخبوني من غير سعي مني رئيسا للشركة وقد كانت المسرح المشرف والستار الفضي لجهادنا المقدس فالشركة إذا ما كانت بهدف تطوير اليمن وتقديم خدماتها لأهل اليمن وانما ستارا وغطاءا للعمل ضد الدولة والتآمر على النظام. ويصف عبد الله بن علي الوزير حالة الفرح التي غمرته بعد النجاح في اغتيال الإمام ويقول: كان الفرح والسرور شاملين جميع انحاء اليمن فلقد زالت صخرة ثقيلة مخيفة كانت جاثمة على الرؤوس وتواردت البرقيات للامام عبد الله الوزير من جميع أعيان ورؤساء وعمال اليمن وأخرى كثيرة من الخارج. ويشرح عبد الله بن علي الوزير ما قام به من انشطة واتصالات وبرقيات ارسلت لجماعة الأخوان المسملين في مصر ويفصل دور كل واحد من المتآمرين ثم مغادرته السعودية ووصوله إلى عدن ويقول: أما أنا وزميلي أي القاضي الزبيري فان رئيس بوليس عدن دنكن طلبنا إليه وقال: الأاحسن أن تسافروا من عدن وزاد: إلى أي جهة تحبون السفر؟
فقلنا له: الجهة التي تراها أحسن لنا نسافر إليها،
فقال: الأحسن الهند أو الباكستان.
وحرر لنا جوازات السفر وتوكلنا على الله ووصلنا إلى حيث أنا الآن فقد سافر عبد الله الوزير بجواز سفر محمية عدن التي تصدره السلطات البريطانية المحتلة لعدن إلى الهند أو الباكستان وكانتا تحت الاحتلال البريطاني أيضا. ويقرر عبد الله بن علي الوزير : في 3 اغسطس 1948م فاجأني المرض الخطير نزف دم رئوي فانتقلت إلى المستشفى ومكثت فيه عشرة ايام ثم نقلت إلى المستشفى الهوسبيتال المجاني للغرباء وهناك ودعني زميلي العزيز (اي الزبيري) لأنه قرر أن يتوجه إلى حيث هو الآن. عاوده نزيف الدم الرئوي ونشطت جراثيم السل في رئته كما نشطت في دار الشكر غداة زيارته الأولى لدار الشكر بعد غيابه السنوات التسع وعودته حسب الخطة المرسومة في الدوائر الكائنة في مصر فلا تسمم ولا مؤامرة على حياته ولم يدس له شيئا كما زعموا فيما بعد. توفي عبد الله بن علي الوزير في ذي القعدة 1368 هـ/ سبتمبر 1948م ولم اعلم بخبر وفاته إلا بعد سنة وحياته ومرضه ومماته أصبحت لا تهمني لا من قريب ولا من بعيد أما أنا فأدخلت إلى الوجوم مرة أخرى وسرحت بعيدا بعيدا في تأملاتي عفت الكلام لا أبغي سماع أحد وانما عكفت على مراجعة ما كان وأسير مع ذكرى أبي في رحلة حياته ما فارقته لا في حلة ولا في جولاته. في يوم من الأيام صحوت من نومي ونحن في الروضة ومن توي هرعت إلى غرفة والدي لأطمئن عليه والليلة البارحة كان يعاني من المرض وارتفاع في حرارة جسمه وسلمت عليه وقبلت يده واستفسرته عن صحته وبدل أن يجيبني قال: أعطوني ملابسي وارتداها مسرعا وهم بالخروج. قلت له: سيدي، يجب أن ترتاح اليوم فأنت تعرف حالك البارحة.
قال: هذا قولك ولكن ماذا سأقول إلى الله تعالى والناس منتظرون خروجي.وتحامل على نفسه وخرج كالعادة وكلنا في ذهول. وقتلوك يا أبي لقد رزئنا في الإمام يحيى كان عالما مجتهدا أمة في نفس مضى والدي والمحاسن ستظل تبكيه لا حول ولا قوة إلا بالله ما زالت الذكريات تستبد بي كأنها رغبة عارمة كأنها تباريح صرخات تناديني وتدعوني إلى بذل تلك السمات الصادقة النقية لوالدي رحمه الله. كان والدي يرحمه الله يحب تواجد أخواني يوميا للغداء معه وأداء صلاة العصر وكان لأخواني المتزوجين بيوت مستقلة ولكنهم كانوا يحضرون كنت ارتقب سماع نصائحه لأخوتي فيوصي الكبار برعاية الصغار ويوصيهم في زوجاتهم خيرا ويشدد بضرورة تعاملهم مع الناس بالعدل والأخلاق. في المساء وبعد العشاء كان يرحمه الله يطالع الصحف والجرائد التي تأتيه من الخارج ويقرأ جريدة الايمان واذا جاء في الاخبار ما يمس الدول العربية من الدول الاوروربية المستعمرة أو ما يجري في فلسطين من قبل إليهود فانه كان يبصرنا بأساليب المستعمرين واليهود ويشركنا في مناقشة تلك الاخبار. وكثيرا ما كنت أطلب إليه أن يحدثنا بطرائف الوالد حسين عبد القادر رحمه الله الشعرية والأدبية وما كان يدور بينهم من أشعار ومساجلات كنت اسجلها في دفتري وما زلت احتفظ بها إلى اليوم مثل قصيدة السبع البوارد والابيات التي قالها في الخردل. وسجلت في دفتري بعض نوادر القاضي محمد راغب رحمه الله. خرج الإمام بمشواره اليومي بعد العصر برفقته القاضي راغب وعند عودتهم في الغروب اخرج الإمام من جيبه حبتي تمر وقال للقاضي راغب: هل أعطيكم فطورا فاستغرب القاضي راغب. وقال: أي فطور.
قال والدي: هذا يوم عاشوراء وهو يوم عظيم تروي بعض الأحاديث: أن من صامه غفر الله له ذنوب سنة ماضية وسنة آتية.
فأجاب القاضي راغب: اعطيني فتوى بيدي لأترك صوم رمضان وأصوم هذا اليوم فقط والله يغفر عاما سابقا وعاما لاحقا وضحكا.
وأنا أقول : الحمد لله الذي أكرم والدي الشهادة فهنيئا له ولأخوتي ولكل من قتل وتوفاه الله شهيدا مظلوما ولي في قول الله تعالى:
" يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة أن الله مع الصابرين، ولا تقولن لمن يقتل في سبيل الله أمواتا بل أحياء لكن لا تشعرون".
وجل من قال:" ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون".
في صباح اليوم الثاني تولى أخي علي نقل جثة والدي وأخواني وبن أخي ودفنت في جوار مسجد الرحمة في بئر العزب وكان الإمام يحيى قد اشترى الأرض ليدفن فيها لأنها بجوار مسجد ولم يكن له موكب تشييع أو أية مراسم شعبية فقد فرض الانقلابيون حظر التجول ومنعوا حركة الناس. وتوشحت بجميل الصبر وداومت على العبادة والصلاة وقراءة القرآن ففيه سلوان وطمأنينة لقلبي . ثم جاءتني الاخبار المفزعة لقد ألقى الانقلابيون القبض على أخواني علي والقاسم وإسماعيل ويحيى وأودعوهم سجن قصر غمدان أبلغني بالخير أولاد خالي. وبعد ثلاثة أسابيع كان النصر للامام أحمد وعرفت أن الإمام أحمد اصدر بلاغا رسميا توجه به إلى شعب اليمن أعلن فيه العفو العام: وجاء " الآن نصرنا الله على تلكم العصابة التي اغتصبت العرش لأيام قلائل بوسائل الغدر وارتكاب جريمة القتل والاغتيال لجلالة الملك الراحل الإمام يحيى رحمه لله وتغمده برضوانه كما قتلوا أبناءه وكثير غيرهم من الأبرياء من الرجال والنساء والاطفال وضغطوا على سكان العاصمة بالحديد والنار حيث سلطوا الجيش بسلاحه على الآمنين في دورهم وكل ذلك للاستيلاء على بيت مال المسملمين واللعب بالنار لأغراض تتنافى وتعاليم الاسلام وتتصادم مع الشهامة العربية. نعم الآن يجب أن نعلن للجميع بأن تلك العصابة الأثيمة قد باءت بالفشل والخسران والندم. ونحن بازاء هذا النصر العزيز والفتح المبين لا يسعنا إلا أن نقدم الحمد الجزيل والثناء العظيم لله العزيز الحكيم على ما أولانا من نعم، ثم أنا شكرا لله عز وجل نعلن العفو العام لكل شخص قال ما قال أم فعل ما فعل أثناء تولي تلك العصابة المجرمة للحكم كان ذلك في صنعاء العاصمة أم خارجها من بلاد اليمن أم غيرها. نعم عفا الله عما سلف فانا لا نحمل حقدا لأحد ولا نعمل على ضر احد بل نعاهد الله على أن ننسى الماضي بما فيه من خير وشر إلا كل عمل يمس حدا من حدود الله فمثل هذا العمل سيحال إلى هيئة من كبار العلماء وفطاحل القضاة والحكام للنظر فيه والعمل بما يطابق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما ما عدا ذلك فنحن قد عفونا عفوا كريما تاما يشمل العفو كل شخص سواء أكان في الجيش أو أية مصلحة من مصالح الحكومة أو من رعايانا في أي ناحية كانت نعم عفا الله عما سلف والله المستعان ومنه التوفيق. وعلى الاثر اشتعلت صنعاء بالمشاعل من على سطوح المنازل تعبيرا عن التنصير ونصرة الإمام أحمد كل صنعاء أصبحت نورا مضيئا ولكن لم تكتمل الفرحة إذ لم تمض ساعتان إلا وحصل ما لم يكن بالحسبان. جموع غفيرة هائجة مائجة غاضبة لمقتل الإمام فان القبائل المحاصرة تملأ عنان السماء يا متوكلاه يا متوكلاه جاءوا ينهبون كل شيء في صنعاء فأهالي صنعاء في عرفهم بغاة ظلمة قتلوا امام الامة ونهبوا البيوت والاثاث والمحلات التجارية، وحتى النوافذ والابواب دخلوا مسلحين بالبنادق والفؤوس والمعاول وحتى جمالهم وحميرهم.
رأيت بشرا يقتحمون المنازل ويشلون كل شيء فيها حتى وصلت جموعهم إلى بيت خالي وسمعت قرعا شديدا على الباب الرئيسي كأنهم يريدون كسره والدخول عنوة فأسرع خالي إلى الباب وبادرهم بقوله: ضيوف على الرحب والسعة عندي ابنة الإمام الشهيد فتراجعوا وقالوا: قبلنا حياك الله وحيى بنت الإمام وتراجعوا فلا نهب ولا حتى تخطي عتبة الباب. فناداهم خالي: إلى أين؟ تفضلوا أحمونا وأحموا جيراننا. وبالفعل استجابوا وبادروا بترتيب أنفسهم على النوافذ والاسطحة والبوابات لحمايتنا وجيراننا . ما كنت أعرفه وما زلت اعتقده بأن قبائل اليمن معروفة بعزة النفس وحاشى لله أن يعتدوا على الابرياء ولا على الاطفال والنساء ولا يحاسب إلا من ارتكب الجرم وقد سمعت أن أخي الإمام أحمد أرسل قوة من العساكر احضرت أسرة جمال جميل وزوجته وأولاده وهو مدير الامن في فتنة الانقلابيين واحد قادة الفتنة واسكنهم بمنزل جوار منزله وألزم عددا من الحراس لحماية الأسرة ولم يمسسهم اذى بتاتا. غير أن الجموع الهائجة كانت تهتف قتلتم الإمام يا أهل صنعاء يبغون الانتقام من الكل ساخطون كل السخط. في صباح اليوم التالي وصل أخي علي وكان قد تحرر من سجن قصر غمدان بعد أن خارت عزائم الانقلابيين واستسلموا إلى منزل خالي لغرض انتقالي من بيت خالي والالتحاق بأسرتنا لكن خالي قال متوسلا: لولا بقاؤهم عندي ما سلم بيتي من النهب فاتركهم لأيام أخر وبافعل تركني أخي علي ثم بعد يومين وقد هدأت موجة النهب وبدأ الامن والاستقرار يعودان وصل هذه المرة ومعه أخي يحيى.
وأبلغتهم : أني لا أريد الذهاب إلى دورنا هروبا من الوحشة والاغتراب لفقدان ركنها والأخوان وما حل بها في الثلاثة أسابيع التي اخضع فيها الانقلابيون صنعاء لنزواتهم فذهبنا إلى دار أخي علي المسماة بدار الحمد. أما أخي علي فقد كان يحاول بكل وسيلة وقوة تهدئة الاوضاع والعمل على دفع القبائل بمغادرة صنعاء والعودة إلى بلدانهم. ومنع النهب والتدمير والخراب كان يصل إليه أناس يستغيثون فيذهب معهم مبكرا ويعطي بعض المشايخ مبالغ مالية شريطة إلا ينهبوا أو يعتدوا ويشترط عليهم مغادرة مدينة صنعاء قبل غروب شمس ذلك اليوم، كل يومه يقضيه في اقناع القبائل للتوقف ومغادرة المدينة ولا يعود إلا في المساء وقد شحب وجهه وغدا منهوك القوى متعبا.
وما هي إلا أيام إلا هبت علي محنة جديدة ذلكم أن بعض المغرضين أوشى للامام أحمد بأن أخي علي كان يصرف الأموال من بيت المال بوجه غير شرعي وأنه يبدد خزينة بيت المال فأمر الإمام أحمد بايداع أخي علي سجن حجة بدعوى تصرفه بأموال الدولة خلافا للوجوه الشرعية.
فقلت في نفسي: أيتها المحن قد أكملت الشوط، أيتها المصائب لماذا تنزلين علي تباعاً.

مصائبك كانت ذات شقين:
مصيبتي في ابنتي ماذا لو عرفت أن اباها هوالذي قتل جدها لقد سقطت كل الاقنعة وباتت الحقيقة معروفة فكيف لي أن احرس ابنتي من كل طارق واحول دون معرفتها الحقيقة المرة والتي ستدمر كيانها تضاعف حبي لابنتي وزاد تعلقي بها سيما وانها ذكية مرهفة الاحساس وهي قد بلغت العاشرة من عمرها. ساعدني الله وأقمت من نفسي سدا وحارسا وحاجزا لها من رفيقاتها بنات عمرها ووقف معي جميع أفراد أسرتي حالوا دونها وسماع الخبر وكان الامر صعبا فكيف أحوطها بكل هذه السرية والكتمان ووفقني الله في تحمل المسؤولية فليس لابنتي من يحميها من لهيب الاكتواء بنيران الأحزان غيري انها بريئة ولا ذنب لها في كل ما حصل ثم انها فلذة كبدي وقطعة عزيزة مني دما ولحما وعاطفة وحبا. وبعد حقبة من الزمن اخبرتها أن والدها عانى من امراض كثيرة وتوفي بالخارج وما نطقت لها بكلمة واحدة عن ذاك السر الرهيب وانما عرفته هي عشرين عاما وكانت قد تزوجت ووهبها الله عبد الوهاب وخالد عرفت السر من اعمامها الولدين زيد وقاسم الوزير في بيروت. سمعتها ذات يوم تقول وقد عرفت كل شيء:
الحقيقة أن أسرة حميد الدين طيبون لأن احدا منهم لم يفوه بهذا الخبر أن لوالدي اليد الطولى في قتل جدي الإمام يحيى. كم كان ثقيلا ومرهقا حجب هذ الخبر عن ابنتي طوال تلك السنوات الغبراء.
ومصيبتي الثانية: في اغتيال والدي وأخواني وابن أخي واعتقال الانقلابيين أخواني ثم معاودة اعتقال أخي علي، لا لذنب اقترفه وانما لوشاية من حاقد. وليعذرني القرىء فالافكار والذكريات والحوادث تضطرب وتتشابك ولكن ما ذنبي فأهوال ما عانيته تهد الجبال وصبري دونه أكباد الجمال. وكان أن وصل أخواني المطهر ويحيى إلى دار أخي علي يحملون رسالة الي قالوا وصلنا خصيصا لك رسولين من طرف الإمام أحمد. الإمام أحمد مشغول باله عليك ويطلب نزولك إلى تعز لتكوني طرفه وسيعمل كل مستطاع لراحتك وبالفعل استجبت . وبالفعل سافرت مع أخواني المطهر ويحيى وبرفقتي ابنتي والمساعدة الامينة ولكن دون مواكبة واحتفالات وقد فرح الإمام أحمد بوصولي وقابلني وابنتي بقدر عال من الحنان والود وحين انفردت به طرحت عليه موضوع اعتقال أخي علي وبينت له وأنا شاهدة على ذلك أن كل ما صرفه ما كان إلا استجابة للاستغاثات التي أبداها الناس ليتخلصوا من الاضرار التي أصابتهم بسبب هؤلاء ولولا جهود أخي علي وحسن تصرفه لاستمرت الفوضى والغمة لأيام أطول ولأصاب الناس شر مستطير. وكان جوابه يرحمه الله؟: اني واثق من صدق ما تقولينه ولكن الشرع يفرض علي التثبيت والاستقصاء. وما هي إلا أيام حتى أطلق سراح أخي علي وعاد إلى منزله بعد أن اتضحت الحقيقة وبراءته بشهود عدول اثبات. ثم ناقشت أخي أحمد في اعتقال عمي الكبير وقلت له: أعتقد براءة العم علي من دم أبينا.
فأجاب: مع احتمال ذلك، فإذا ثبت فسوف يطلق سراحه والحقيقة لا تخصني وحدي في دم أبينا فهناك ورثة غيري. ثم أن القضية تحت نظر الشريعة. فلا تدخل فيها لا مني ولا من غيري. وفي تعز أسكنت في قصر الصالة من الدار الشرقية بعد أن جهز لاستقبالنا وكان يصحبني أخي عبد الرحمن وأولاد أخوتي علي بن إبراهيم والحسن بن علي ونلقى الرعاية الجمة والعناية الفائقة المباشرة من أخي الإمام أحمد رحمه الله واستأنفت ابنتي الدراسة مع أستاذة القصر.
امضيت في تعز عامين، ثم تاقت نفسي لزيارة صنعاء ولقاء أهلي وأستاذنت أخي الإمام فوافق شريطة أن أعود. وأشهد انني خلال اقامتي طرف الإمام أحمد ما عرفت منه إلا التفاني في خدمة شعبه ومتابعة قضايا الناس بهمة لا تعرف الفتور كان يعمل في النهار والليل وله صولات وجولات حتى داهمه المرض. وسافرت إلى صنعاء ولما وصلت انشغلت بترتيب أموري وتجهيز سكن مناسب وتأثيثه ودار دولاب الحياة مرة أخرى مهما كانت فرائس الأحزان وكيفما كانت علقمية الذكريات فالحياة يجب أن تستمر. كان لتواجد أخواني حولي كل واحد منهم يشملني بالود والتقدير ويحاولون دفعي لتخطي الأحزان ومواجهة الحياة بكل شجاعة وعناد واصرار. والحق أقول: كان لدي اصرار عجيب على الاستفادة من كل ما هو متاح والتغلب على الوازع العاطفي فحاولت الانطلاق من مغاليق نفسي فالماضي لن يعود حياتي بدأت من جديد في صنعاء وكان بها آنذاك من أخوتي. أخي المولى الحسن حفظه الله وأخي عبد الله والمطهر وعلي والقاسم والعباس ويحيى كل واحد منهم في سكنه وله شخصيته وطباعه وسلوكه إذا زرت دار الشكر حيث سكن أخي الحسن أجد فيه صفات والدي نفسه زكية لطيف المعشر أسمع منه العلم الرقيق والاحاديث النبوية ونصائح وفوائد لا غنى لأحد عنها غير أن دار الشكر وبرغم عنادي واصراري على تجاوز ما كان كانت تثير أشجان نفسي وتنشر ذكريات ارتبطت بأحلى أيامي الخوالي تسابيح الليل وآذان الفجر بصوت العم حمود الشمسي مؤذن الإمام الشهيد واذا كنت في قصر دار السعادة استرجعت حادثة مضحكة ومخجلة فقد كنت أعلق في صدري ساعة ذهبية مربوطة بسلسلة ذهبية للزينة والوقت ومن عادتي أن يكون أبدا قلم في جيبي لا أفارقه البتة. لأن والدي يرحمه الله كان يأمرني في أغلب الاوقات أن أكتب ما يمليه علي مثل تحويل شيء أو فك لدخول أو خروج احد من القصور ويومها كنت في الروضة. وفي أحد أيام الصيف وكنت مع أخواتي وقد انتهى والدي الإمام من صلاة العصر في شاذوران دار الخير بالروضة استدعاني والدي وأمرني أن آتيه بورقة بيضاء لأكتب شيئا فهرعت إليه بالورقة وأخرجت القلم وقعدت أمامه منتظرة لما يأمرني بكتابته فإذا قلمي فارغ من الحبر نفضت القلم حتى استجر الحبر فما اجاب فخجلت واحمر وجهي، فقال والدي: كم الساعة فنظرت إلى ساعتي فإذا بها واقفة لا تتحرك عقاربها فذبت واضطربت فنظر الي والدي بنظرات مؤنبة كادت أن تسحقني وكنت أتوقع الأكثر إلا أن صغر سني ودلاله لي شفعا لي واكتفى والدي بتلك النظرات ولكن لم يشعر بها أحدا من الحاضرين. كنت اعرف أن حنان أبي وحبه لي منعاه من تأنيبي وكانت درسا قاسيا تعلمت أصول اليقظة والحيطة وما برأ جرحي إلا عندما تكررت الحكاية وأمرني بالكتابة وسألني عن الوقت فكنت جاهزة ومستعدة ولمحت رضا بريق عيونه وانفراج أساريره ومن ذلك اليوم ما تراني إلا أقدر الأمور حق قدرها على الدوام. في دار الخير بالروضة حيث سكن أخي العباس كنت عندما أزوره أجبر نفسي على عدم النوم إلا بعد صلاة الفجر لأستمع إلى زقزقة العصافير في الصباح الباكر ثم أصوات الغلمان الصغار يتغنون بأنغام طفولية رائعة لاخافة العصافير وطردها حماية لأعناب الروضة يبدون كجوقة غنائية نظيمة اللحن والموسيقى واستمتع بغنائهم وألحانهم كأنهم يعزفون على أوتار قلبي ثم يتلوه أصوات الشباب وهم يسنون المياه وبالدواليب والبكرات من الآبار بواسطة الجمال بألحان قد توارثوها من عمق الزمن عن الآباء والاجداد. وفي بيت أخي العباس كان الماضي يتجسد امامي تذكرني دار أخي العباس بالاهل والناس وتعيد رسم صورة مجتمعنا اليمني في زمانه ووقته ولكن وأواه من لكن فان ذكريات الألم تعاود عصر نياط قلبي أصبت بسهم الزمن وتوالت المصائب فحادثة اغتيال والدي المجاهد والمحب لشعبه وأمته التقي الورع الزاهد العالم وقد جثا على جثمان حفيده الطفل وبجانبه رفيق دربه والمؤتمن على دولته وزيره القاضي عبد الله بن حسين العمري وأخواني الحسين والمحسن ماكانت لتفارقني لحظة وان كنت اتصنع السرور والضحك. وتوفي أخي إبراهيم رحمه الله في 22 شعبان 1367 هـــ/ 29 يونيو 1948 م ثم أخي يحيى رحمه الله تعالى عام 1369 هـــ/ 1950م. مالي أرى طائر الفرح يخفق في صدري لحظة ثم أراه وقد طار اترنح وسط عباب زاخر وعصف رياح فغمامة من الحزن تظل رابضة على صدري أفقد كل حين أخا عزيزا. وعبر صبر عجيب فان شفتاي تتمتم لا بد من ابعاد كل جنوح إلى الضعف عن خاطري علي أن أوقف طاحونة العذاب التي تحيطني. فضلت الاستقرار في منزل أخي علي " دار الحمد "، حتى يتم اصلاح وفرش منزلي وبالفعل، انتقلت إلى منزلي ولم استقر فيه سوى بضعة اشهر

* المصدر كتاب يتيمة الإحزان
#محمد_حسين_العمري

ليست هناك تعليقات: